دعا المشاركون في ندوة "ثقافة التسامح الديني والسياسي في اليمن" الفعاليات والمؤسسات الدينية والسياسية والثقافية والإعلام والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني المعنية بصورة مباشرة وغير مباشرة بتشكيل الرأي العام ومالكي القرار الوطني إلى جعل قيم التسامح والتعايش المرجعية الأولى في كل ما يخططون له، وينفذونه خدمة لأهداف السلم الاجتماعي والتعايش الإنساني والعالمي.
وذكرت "دعوة التسامح" الصادرة عن المشاركين في ختام أعمال الندوة اليوم التي نظمها على مدى يومين منتدى جسور الثقافات بصنعاء أنهم وقفوا أمام حقيقتين رئيستين تؤكد الأولى أن لا أساس من دين للاختلاف والصراع كون كل الرسالات السماوية تلتقي حول تأكيد وحدانية الخالق, وقيم المحبة والتعايش بين الخلق. فيما تظهر الحقيقة الثانية أن الإسقاط السياسي على الديني أو التجنيد السياسي للبعد الديني يتحمل الجزء الأكبر من مسؤوليات الاستعداء، ويقف وراء إثارة وتغذية النزعة العدائية، وبالتالي دفع الظاهرة الفكرية للتطرف إلى المظهر العملي للإرهاب. وبحسب دعوة التسامح فإن المشاركين في الندوة يرون أن تجسيد ما قدم خلال أعمال الندوة من مداخلات وأوراق عمل حول أهمية إشاعة روح التسامح يتطلب إحياء الحوار بين الأديان الذي كتب له أن يقطع شوطا مهما لصالح التعايش الإنساني, والعمل على فض الاشتباك بين السياسي والديني أو الاستغلال السياسي للدين. وكذا عدم أخذ وطن ودين معين بجريرة فعل البعض ممن ينتمون إليها، ويواجهون بالرفض من مجتمعاتهم, والتأكيد على أن التطرف والإرهاب لا دين لهما أو وطن. وتضمنت الدعوة مراجعة بعض المفاهيم التي لم تعد تتطابق مع واقع الحياة العصرية, وكذا بعض السياسات والمعايير التي ثبت إسهامها في توسيع نطاق التطرف، ودفع أطرافه نحو الإرهاب بعد أن تأكد بالدليل الديني والتاريخي والسياسي القاطع بأن التسامح أنفع للناس من التعصب. وكان المشاركون قد استكملوا جلسات أعمالهم صباح اليوم برئاسة المستشار السياسي لرئيس الجهورية رئيس المنتدى الدكتور عبد الكريم الإرياني, باستعراض أربع أوراق عمل. تناولت ورقة العمل الأولى المقدمة من نقيب الصحفيين اليمنيين رئيس مجلس إدارة وكالة الأنباء اليمنية (سبأ) رئيس التحرير نصر طه مصطفى " خواطر في التسامح السياسي"، أكدت أن التسامح الديني والسياسي كانا ولا زالا سمة أساسية في حياة الشعب اليمني على مدى القرون الماضية، وحتى الآن، ولم يحيد اليمانيون عن نهج التسامح إلاّ في حالات هيمنة أصحاب الإيديولوجيات المتطرفة والتعبئة العقائدية الخاطئة على القرار سواء كانت عقائدية دينية أو سياسية أو خليط من هذا وتلك. وقال:" إن الساسة والقادة المؤدلجين والمتطرفين هم الذين كانوا يقودون أتباعهم من المواطنين إلى مجاهل العنف والحقد والتطرف لأن العنف والتطرف والحقد ليست من سمات اليمنيين". وأضاف:" منذ قيام النظام الجمهوري في بلادنا يمكنني القول باعتزاز كبير أنه نجح في إعادة اللحمة الوطنية بين أبناء الشعب، وتمكن من نزع معظم عوامل التعصب المذهبي والمناطقي والقبلي بإشاعة روح الإخوة والحرية والمساواة والتسامح والألفة وتعميق روح الولاء للوطن بأكمله". واعتبر نصر طه مصطفى كسر العزلة الداخلية بين أبناء الشعب إزالة للحواجز النفسية الوهمية التي صنعتها عهود الاستبداد والتخلف، وأنتجت حالة غير مسبوقة من الاندماج الاجتماعي، والمصالح الاقتصادية المشتركة، والتقارب السياسي على أسس فكرية غير عصبوية، مبينا أن الانفتاح على العالم الخارجي أسهم بالكثير من التنوير عبر نشر التعليم والتثقيف بمختلف الوسائل. وذكر أن نهج التسامح في سلوك فخامة الرئيس علي عبد الله صالح لم يكن نابعا من ضعف، أو كان اصطناعا أو مداهنة من النظام بل كان قناعة وإيمانا وسلوكا أصيلا قبل أي شيء آخر. مستشهدا بأنه " في غمرة المعارك التي ظلت تشنها المجموعات اليسارية في المناطق الوسطى قبل 28 عاما أعلن فخامة الرئيس تشكيل لجنة للحوار الوطني من خمسين عضوا ضمت عددا من القادة السياسيين لتلك المجموعات، والذين تمثل بعضهم لاحقا ضمن أول قيادة للمؤتمر الشعبي العام عند تأسيسه, إضافة إلى إعلان الرئيس قبل ذلك بشهور قراره الشجاع بالعفو العام عن المجموعات اليسارية المسلحة". واستطرد نقيب الصحفيين في عرض واقع الانفتاح والتسامح السياسي الذي شهدته اليمن بخاصة في فترة الثمانينات، حيث لم تكن هناك تعددية معلنة لكنها صدرت عدد من الصحف تمثل الأحزاب الرئيسة منها "الميثاق" لسان حال المؤتمر الشعبي العام, "الصحوة" لسان حال الأخوان المسلمين، و"الأمل" لسان الجبهة الوطنية الديمقراطية. ونوه بأن انتخابات مجلس الشورى التي جرت في الشمال العام 1988م، جسدت تنافسا حزبيا غير معلن، وعبرت عن وجود مبكر للديمقراطية التعددية، حيث لم يأت قيام الجمهورية اليمنية عام 1990م، إلاّ وللديمقراطية تطبيقاتها العملية ليتوسع نطاقها، ويتأطر بعد ذلك في إطار دستور الجمهورية اليمنية. وأشار إلى أن رئيس الجمهورية خلال العامين الأولين من عمر الجمهورية اليمنية أدار حوارا مكثفا مع قيادة الحزب الاشتراكي اليمني الشريك في الحكم آنذاك بخصوص إغلاق ملف أحداث 13 يناير تكلل بإصدار قرار العفو في العام 1992م. ونوه بقرار العفو العام الذي أصدره الرئيس عن جميع العناصر التي تورطت في حرب الانفصال صيف 1994م، وأن فخامته وبعد تسع سنوات منها أغلق آخر ملفات تلك الحرب بإلغاء الأحكام الصادرة بحق ما عرف بمجموعة الـ16. وأكد نصر طه مصطفى أن التسامح هو القيمة الأساسية التي لا يقبل الرئيس علي عبد الله صالح المساومة عليها أو التراجع عنها لأنها بالتأكيد جزءا من تكوينه النفسي والروحي، وتربيته وسلوكه وقناعته. وتوقف أمام الأسلوب الذي أدارت به الدولة الأزمة مع حركة الحوثي، حيث أصدر فخامة الرئيس عفوين عامين، ووجه بصرف التعويضات، وإطلاق المعتقلين، وإعادة أعضاء الجماعة إلى وظائفهم, كما قبل الرئيس وساطة خارجية في أمر داخلي لإثبات حسن النوايا. وذكر نموذجا أخرا لمنهجية التسامح السياسي تمثل في إعادة أكثر من 35 ألف عسكري إلى الخدمة في الجيش كمعالجة لأزمة المتقاعدين التي حدثت خلال عامي 2006 و2007م الماضيين. وأكد على أن التسامح سلوك نبيل ينم عن سمو صاحبه، وتغليبه العام على الخاص كما قد يكون صفة أصيلة في إنسان ما فإنه يكتسب أيضا إذا رغب في ذلك أي إنسان, وهذا يعني أن الأطراف السياسية قادرة على انتهاج التسامح كمسلك في أدائها إن أرادت ذلك. كما أكد بأن نهج التسامح السياسي لا ينتج إلا الثقة بالنفس، وتسائل لماذا ينزعج أولئك المزايدين اليوم من بضعة صحف أو مواقع إلكترونية لا يصل تأثيرها إلى عشر تأثير الإذاعة والتلفزيون رغم أننا نشاهد يوميا على الشاشات نواب المعارضة، وهم يعبرون عن آرائهم بكل حرية دون أن يهتز للدولة طرف؟. ولفت نقيب الصحفيين اليمنيين إلى أن اليمن قادمة على استحقاق انتخابي هام بعد أقل من عام، وقال:" هو استحقاق يجعلنا نأمل من فخامة الرئيس بما عرف عنه من السماحة والترفع عن الصغائر فتح صفحة جديدة مع أصحاب الكلمة بإطلاق زميلنا الصحفي محمد المقالح، ووقف محاكمة الصحفيين، وفي مقدمتهم الصحفي عبد الكريم الخيواني، وإطلاق تراخيص الصحف المستكملة لشروط الإصدار، وإطلاق المواقع الإلكترونية المحجوبة، والتعجيل بإنجاز التعديلات على قانون الصحافة لتشكل نقلة جديدة للكلمة الحرة الصادقة والمسؤولة". وقدم رئيس تحرير مجلة "التسامح" العمانية عبد الرحمن السالم ورقة بعنوان "المسؤوليات الإنسانية المشتركة" استعرضت واقع الأحداث التي شهدها العالم قبل وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما مثله تغيير المعادلات الدولية من أزمة ضاعت في ظلها الحقوق الإنسانية، وسادت ثقافة الفوضى والعبثية بخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وبدء سيطرة القطب الواحد. واعتبر أن النظام الدولي الجديد هو نظام المسؤوليات المشتركة، ويتركز ويجب أن يرتكز على اعتماد الحوار السلمي بين سائر الأطراف وداخل المؤسسات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني العالمي, وأن ينطلق في الحوار من مبدأ وحدة الإنسانية التي هي حقيقة واقعة. وذكر بأن المسؤولية قسمين مسؤولية التبليغ, ومسؤولية الأمانة والاستمرار والاتباع في تأدية الرسالة، وأن الخير بمقتضى الفطرة مشترك بين البشر والمؤمنون أولى به كونهم يعرفون أصله الواعي. وقال:" مع الثقة بالله عز وجل يأتي نصره لعباده، وإذا كان المسلمون يعانون من أوضاع مزرية فلا شك أن ذلك بمسؤولية الجميع، وإذا كانت أوضاع أهل الذكر ليست على ما يرام فلن يستطيعوا التقدم، ولن يتم إحداث تطور لصالح البشرية". وأكد إن في اليمن تسامح مذهبي وديني، وأنه من حيث الوجه الحضاري ظهرت عدداً من الحضارات في اليمن التي أسهمت في تطور العالم المحيط به. وأضاف:" من خلال التجربة الإسلامية في اليمن ظهرت مذاهب متعددة مثل الزيدية والقرمطية, وغيرها كما أنه لا زال هناك عدة مذاهب إسلامية لا زالت تتعايش بسلام وهدوء، كما أن اليمن عرفت في العصر الحديث حركة تنويرية إيجابية وصل قبسها إلى أرجاء الوطن العربي". من جانبه قدم الدكتور علوي طاهر ورقة بعنوان " التسامح الديني في اليمن" استعرض من خلالها نماذج التسامح الديني الذي شهدته عدد من المدن بخاصة صنعاء وعدن سيما مع طائفتي اليهود وأتباع النصرانية. مقدما مقارنة توضيحية حول مجمل الحقوق والحريات التي مارسها أتباع تلك الطائفتين، وما توفر لهم من كنائس ومعابد، وما مارسوه من نشاط متعدد دون أن يتعرضوا لأي قمع أو اضطهاد من قبل أبناء المجتمع اليمني المسلم. كما قدم الباحث والكاتب عبد الله هاشم السياني ورقة بعنوان " ثقافة التسامح ..مؤشرات ومحطات" أسهم من خلالها في إثراء المشهد التاريخي للتسامح اليمني في مختلف مناطقه، وما تميزت به المجتمعات اليمنية من القبول بالآخر والتعايش. واستند في أطروحاته على وقوف متأمل في بعض محطات التاريخ، متناولا فيها "الأديان السماوية", "جرهم ونبي الله إسماعيل, اليهودية في اليمن"، "قصة المسيحية", و"طواعية الدخول في الإسلام". كما أثريت الندوة بمناقشات ومداخلات من الحضور صبت جميعها في توسيع رؤية الطرح حول عنوان الندوة، والكيفية التي يجب نهجها لتعزيز نهج التسامح الثقافي والسياسي في اليمن، كما أكدت في مجملها على واقع التسامح الذي يعيشه اليمن في عصره الراهن، وما يضربه اليمن من مثل يحتذى به في هذا المجال بين دول العالم نتيجة التجانس الاجتماعي الذي يتميز به.