وفي أحد الأحياء القديمة للمدينة توقفت بنا الدراجة أمام منزل عتيق قال لي بارجاء ان هذا المنزل هو منزل العلامة والأديب و المؤرخ الكبير جعفر بن محمد السقاف الذي يعد من أهم المؤرخين في تاريخ حضرموت...
و بمجرد ان طرقنا الباب وجدناه في انتظارنا فاستقبلنا بترحاب و دماثة عالية..
في مكتبته جلسنا ووجدنا الكتب تتكوم من حولنا و تزدان الجدران بعدد من الشهادات و الأوسمة التي نالها هذا المؤرخ الكبير .. أخبرته بأنني أريد محاورته حول تاريخ السيول في حضرموت .. فأجابني :هذا من أحب المواضيع إلى نفسي !.
وفي مايلي نص هذا الحوار :
* للسيول في حضرموت تاريخ يحكى و قصص تروى .. بخصوص الخلفية التاريخية للسيول في ذاكرة ابناء حضرموت، ما هي ابرز المحطات التي مرت بها هذه السيول في هذه المحافظة و تحديدا وادي حضرموت ؟
- كما قلت لك فهذا الحديث من أحب الأمور إلى نفسي أنا أتحدث عن هذا لأني عايشت بعض من هذه الكوارث ومن هذه الكوارث التي عايشتها بالضبط الكارثة التي وقعت في السابع من شهر رمضان 1374 هـ، حيث عايشت هذه الكارثة التي حلت في وادي حضرموت و من حسن حظ المواطنين انها حدثت في النهار و بالضبط الساعة الثالثة عصرا و لهذا فعندما بدأت البيوت تتشقق شعر المواطنين بالخطر فنجوا بأبدانهم و أرواحهم لذا لم تحصل وفاة واحدة بينما البيوت التي تضررت كانت أكثر من ستين بيتا كلها تهدمت على نفسها فشكلت حينها _أيام المستعمر البريطاني لجنة إغاثة وشكل سكرتير السلطنة الكثيرية لجنة برئاسة أبو بكر بن شيخ الكافوعضوية الأمير عبد المجيد و رئيس المجلس البلدي وغيرهم .
شُكلت هذه اللجنة وعملوا نداء إلى الدول العربية والصديقة والشقيقة بأنه حلت بسيئون كارثة فتسارعت البلدان العربية إلى مد يد العون بالإضافة إلى بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول فجاءت المعونات فأعادت للناس بيوتهم وتصور أنهم أعادوا للناس بيوتهم أحسن مما كانت قبل ذلك لان البيوت التي تهدمت كانت بنايتها قديمة فأعادوا بنائها بصورة حديثة .
تنظيم مجاري السيل
وشكلوا أيضا لجنة أخرى لتنظيم قنوات الري والسدود التي تحتجز المياه وهي الآن عندنا ساقية المنكا و ساقية البلاد في شارع الجزائر حاليا و قاموا بتنظيم هذه السدود و قنوات الري الرئيسية ثم على ضفافها أضافوا لها الأحجار التي هي إلى الآن قائمة وأزالوا العوائق التي هي تحول دون جريان الماء حيث كان هناك أشجار يسمونها الزعبور بجانب أشجار النخيل وغير ذلك من الأشجار فأزالوا هذه الأشجار من اجل المياه تجري إلى البساتين وفق نظام معين عمله خبير ري اسمه أبو بكر سالم باناعمه بحيث انه يوزع المياه التي تأتي من الجبال على كل البساتين دون ان تحصل هناك فيضانات فنظموا هذه أيضا ثم جاءت الخطوة الثالثة أيضا والمتمثلة في انه عندما تحصل فيضانات أو حروب - لا سمح الله - فانه تنقطع الإيرادات إلى حضرموت من المهاجر فالناس بحاجة إلى عمل و دخل فشكلوا لجنة إغاثة عملت على تشجيع الزراعة فأعطت كل أسرة لديها بستان صغير 0قرض لتعتمد على نفسها وأعطوا المزارعين الكبار قرضا و استوردوا لهم مضخات ماء من بريطانيا ووزعوا المضخات على المزارعين وانتعشت الزراعة فصار وادي حضرموت الداخلي يصدر من الحبوب والشعير والذرة والبر إلى مناطق الساحل بكميات كبيرة فكانت خطة محكمة ... الخطوة الرابعة عمل فيها سكرتير الدولة الكثيرية عمر المشهور على التفكير بانشاء سد حيث فكر ان هذه المياه التي تجري في الوادي الرئيسي تذهب إلى البحر ففكر لماذا لا نستفيد منها و نصنع سدا فقال لابد من سد ترابي الغرض منه ارتفاع المياه الجوفية من مستواها المتدني فعمل هذا السد و لما أنجزه شكل بحيرة في الوادي فارتفعت المياه خمسة أمتار فغرقت المضخات في المياه وصار المزارعون ينتشلوا مضخاتهم .
سد النقرة
لكن هذا السد الترابي لم يقف أمام السيول حيث اكتسحه السيل فقالوا نريد سد رئيس آخر يحجز لنا المياه فعملوا سد النقرة الذي هو سد قديم خططت له اللجنة المحلية هنا و رئيس البلدية الجفري عام 1374هـ فاتوا بمساعدات كبيرة فرأى المحليون ان سد النقرة يبنى بخبرات محلية لكن الانجليز اعتمدوا على أرائهم فاحضروا مهندس معماري من قبرص اسمه مستر بكتن و هو خبير في السدود فجاء وعمل تخطيط لسد النقرة و لكنه لم يستشر الخبراء المحليون الذين تنبئوا بعدم صلاحية السد لان بكتن لا يعرف طبيعة المنطقة فقاس السد هذا على ما يعمله من سدود في قبرص وغيره و هنا يختلف لان المياه لدينا تندفع من رؤوس الجبال باندفاع قوي بينما المياه التي هناك في بلدان الشرق الأوسط لم يكن لها هذا الاندفاع فتنبئوا له بالفشل وقالوا بريطانيا ركبت هواها وهذا السد لن تقوم له قائمة وبالفعل هذا السد احضروا له ملايين الشلنات واشتغلوا فيه ثلاثة شهور بعمال كثير واليات و للأسف جاءت السيول واكتسحته وهكذا حضرموت كانت معرضة للكوارث .
* انتم كعلماء ومؤرخون بما تفسرون ان حضرموت بقيت معرضة لهذه الكوارث على مدى تاريخها ؟
- هناك عدة تفسيرات , فهناك من يرى من علماء الدين انه عندما تكثر المعاصي والمخالفات في أي منطقة لما نهى عنه الدين كانتشار السرقة وترك الصلاة وغيرها من المعاصي فان الله سبحانه وتعالى يحبس عن تلك المنطقة المطر بضع سنين ثم يطلقها دفعة واحدة كما حصل الآن فنحن قبل هذه الكارثة ظللنا بلا أمطار لعدد من السنين ولم يمن الله سبحانة وتعالي علينا بها ثم أرسلها دفعة واحدة فصدم الناس لأجل ان ينتبه من يرتكبون المعاصي بأنهم في مخالفات من الدين وفي مخالفات من الإخلاص للوطن وغيره ... هكذا يقول لنا رجال الدين من ناحية فلسفية صوفية وهي ان الله تعالى يجد من الناس عدم إخلاص لجلاله سبحانه وللوطن فيحبس الأمطار سنوات ثم يطلقها دفعة واحدة فتحصل هذه الكوارث..لكن هذه نظرة صوفية دينية لكن النظرة الأخرى هي لعلماء المناخ والطقس الذين يعيدون الأمر إلى تغير في الأجواء أي هناك منخفض جوي فذلك تفسير آخر.
سيل الاكليل
* ما هي ابرز السيول التي شهدتها حضرموت عبر تاريخها ؟
- تذكر هذا عدد من كتب التاريخ لعدد من أعلام حضرموت فتاريخ شنبل يتحدث عن سيل حدث قبل 600 سنة وهو (سيل الاكليل) الذي هو في نجم الاكليل الذي اخذ كذا بيوت من شبام حيث كانت مدينة شبام و سحيل مدينة واحدة متصلة لكن جاء (سيل الاكليل) فشق سحيل لحالها و شبام لحالها واخذ منها ثلاثة مساجد و خمسة سبعين بيت كانت في البطحاء وهكذا كانت السيول.
** سيل الهميم
بعد سيل الاكليل جاءت سيول أخرى مثل (سيل الهميم )وسيل ( بن ربيدان) وهذا الاخير كان قبل 80 سنة و سمي بذلك نسبة إلى شخص من قبيل بن ربيدان قبلي منطقة القطن حيث حصلت هذه الكارثة في هذه المنطقة و بن ربيدان كان رجل غني وتاجر و يتعاطى الربا وعنده قدور مليئة بالعملات النحاسية والفضية والذهبية وعندما جاء هذا السيل وسقط بيته اخذ التاجر بن ربيدان اكبر قدر مليء بالذهب واحتواه و اخذ خشبة من أشجار النخيل وامتطاها مع القدر في حضنه وجرى به السيل من القطن إلى عند شبام وهناك رآه أهل شبام وهم ناس محكمين فشاهدوه فقال فيه احدهم قصيدة قال فيها : بن ربيدان حول الطس محوي .. حوله بالسيل يأهل الجميلة .. تواريخ السيول كثيرة ففي دوعن حصلت سيول كثيرة وهناك كارثة كتب عنها العلاقة مصطفى المحضار وقال ان ذلك السيل اكتسح جميع نخيل دوعن ولهذا شبه السيل الذي اكتسح نخيل دوعن بأنه مقدمته الأولى حملت معها مئة نخلة تمشي.. ملحمة بن زامل.
* من المؤكد كان الأدب حاضرا في التوثيق والكتابة عن هذه الكوارث فما أهم ما وثقه الأدب عن هذه كوارث السيول في حضرموت ؟
- منها ان علي احمد باكثير وصل إلى هنا من اجل يسجل ملحمة غنائية جميلة هي ملحمة بن زامل و (بن زامل) هذا كان شاعر و فنان و يعزف على العود وفي سنة 1185هـ جاء سيل عظيم و خرج الناس يتفرجون على المجري الرئيسي ومن بينهم هذا الشاعر بن زامل وعندما جاء هذا السيل العظيم كانت عليه بنت تمطتي خشبة و تصيح أنقذوني و بن زامل الشاعر كان فاهم بكيفية الإنقاذ في هذه الحالات فمد لها حبل أمسكت به وسحبها إلى عنده وهذه البنت كان عمرها 12 سنة فأخذها ووضعها في بيته ووجدها بنت جميلة لطيفة وذكية فرباها سنتين وتزوجها عند القاضي لأنها مجهولة النسب لكن أهلها فيما بعد عرفوا ان لهم بنت أخذها السيل إلى بور و أخذها شاعر و تزوجها فوصلوا وقالوا هذه بنتنا ونحن من عاداتنا ان أي بنت هي لابن عمها (بنت العم و لو جارت ) وطلبوا منه ان يطلقها لابن العم أولى بها فقدموا دعوة و حكم القاضي لهم بالطلاق فطلقها بن زامل مرغما وهي تحبه وهي أدبية وشاعرة وبن زامل شاعر فطلقها بن زامل غصبا وزوجوها ابن عملها في نفس المدينة بور عندهم وعرف بن زامل ان هذه البنت تزوجت ابن عمها فاستأجر منزلا مجاورا لمنزل زفافها في ليلة الزفاف فجلس في هذه البيت واخذ العود ويغني :
يقول بن زامل مساك الخير يا نجم الصباح/ يافائق الغزلان يا خروعوب يا حالي الملاح/ لأجلك تركت أهلي و خلاني وغازلت الملاح ...
إلى آخر القصيدة و كانت البنت في حالة الزفاف مع ابن عمها وتسمع ابن زامل يغني فاستأذنت من زوجها وقالت أنا أريد ان اذهب أنظف نفسي في النافذة وشرفت من النافذة وجلست تستمتع إلى بن زامل وأخذت تستمتع وبينما هي تستمتع أخذتها هزة نفسية فتوقف قلبها وماتت ..
تمثال السيول
هناك ملحمة غنائية بدا الأستاذ باكثير يضع ملامحها .. وهذه الملحمة كانت من آثار السيول وهناك قصائد كثيرة قيلت في السيول وآثارها الايجابية والسلبية ومن آثارها الايجابية ان هذه السيول تزيل عنا حشرة التوباز التي تضر بأشجار النخيل كما ان بعض هذه السيول تحصل اهتزازات في الأرض فتكشفت عن وجود معادن وقبل هذا انا عملت في وزارة الثقافة وكنا نعتبر هذه السيول فضل لأنها تكشف عن آثار و قبل حوالي ثلاثين سنة حصلت سيول وبعدها تحركنا إلى قبر النبي هود حيث ان السيول تكشف عن آثار و معابد وتماثيل فانا كنت مسوؤل في وزارة الثقافة وتحركت الى سنا وهي منطقة أثرية قديمة بعد ان حدثتنا عالمة الآثار الفرنسية جاكلين برن والبروفسيور دييه و قالوا ان الانجليز لم يفتشوا في هذه المنطقة وعليكم ان تفتشوا وأخذنا النصيحة فاكتشفنا فيها اكبر تمثال بجانب قبر النبي هود وهو اكبر تمثال كشفت عنه السيول وهو ضخم وكبير ولان المكلا كانت العاصمة فنقلوه الى المكلا و الآن هو موجود في المكلا.
*بخصوص اكبر سيل شهدته حضرموت في تاريخها .. كيف كان ومتى ؟
- بصراحة هذا السيل الذي شهده الوادي مؤخرا هو اكبر سيل لأنه عم المنطقة كلها بينما كانت السيول سابقا تقتصر على مناطق معينة من الوادي مثل سيئون أو دوعن كما حدثتك لكن هذا السيل لم يحصل مثله أبدا فجميع المناطق غمرها السيل في ليلة واحدة واستمر ثلاثين ساعة.. هذا لم يحصل مثله عبر التاريخ أبدا.
* ما تسفيركم لضخامة هذا السيل لدرجة انه هدم البيوت وجرف الأراضي و أحدث هذه الخسائر ؟
- هذا قد يكون بحسب علماء الدين من علامات الساعة فتحصل الزلازل والسيول وهذه من علامات الساعة نتيجة تفاعلات طبيعة يحدثها المولى عز وجل بدليل انه بعد كارثة حضرموت حدثت كارثة في باكستان والله سبحانه هو المصرف وخالق كل شي و هو بعباده بصير .
* لا توجد أسباب أخرى ؟
- هناك أسباب أخرى منها مجاري السيول وكذا البناء العشوائي والناس بنوا في مجاري السيول وبعضهم يضع مخلفات البناء في مجاري السيول بينما كان الناس في السابق كانوا يعتنوا بمجاري السيول وينظفونها ويصلحونها وفقا لكتب التاريخ حيث كان الخبراء عندما تطلع السحاب يخرج المزارعين ويزيلون المخلفات من القنوات ويحفرون، فتاتي الأمطار وتجري المياه في مجاريها لكن الآن عندما تتدفق السيول لا نجد المزارعين يعملون شيئا لمجاري السيول فلا توجد فيها أي عناية فهم يعتمدون على الآلات وهذه من العوائق التي تحدث الكوارث كما ان تأخر هطول الأمطار لسنوات هو نذير كارثة فعندما تتأخر لسنوات فان الله سبحانة وتعالى سينزلها دفعة واحدة عقوبة لعباده لان المياه تتبخر في السحب وتبقى في السحب حتى يأذن الله لها بالهطول فلما كانت تنزل كل سنتين كانت نعمة وإذا تأخرت كانت نقمة وهذه الكوارث والسبب هو الإنسان نفسه لأنه لا يزيل العوائق من مجاري السيول ويبني في مجاري السيول ولا يخرج الزكاة ولا يصلي ويعمل فساد فتكون هذه النتيجة نتبيه لهم.