مديرية ساه.. أنموذج لمأساة خلفتها كارثة السيول والأمطار
الاثنين 10/11/2008- صنعاء/موقع محافظة حضرموت/سبأنت- تقرير :أمين قائد، محمد السياغي - تصوير: خالد بن عاقله

لم يتبقَّ في مديرية ساه المنكوبة في محافظة حضرموت بما خلفته كارثة السيول من خسائر فادحة في الأرواح والمساكن والممتلكات والأراضي الزراعية، سوى وحشة المكان وبقايا من ذكريات أليمة تروي كل زاوية منها تفاصيل قصة طوفان متوحش لا يرحم، باغت المدينة بضراوة على حين غرة من سكانها، قبل أن يجتاح كل شيء، ويقتلع ويجرف ويجتث ويسلب معه الأرواح والحجر والشجر والمنازل والممتلكات... ويقذف الذعر والرعب في القلوب ويحيل المكان إلى أشبة بأكوام من مشاهد وصور فاجعة حقيقية بكل المقاييس لا تتسع لتصويرها عدسات الكاميرا.


** معركة ضروس
في الطريق إلى مدينة ساه حيث كل شيء تحت الأنقاض يحكي قصة السيل الذي لم يعهد مثله أحد من معمري المنطقة منذ أكثر من قرن من الزمان، يبدو الطريق وسط الأخاديد والخنادق الغائرة التي تقطع الطريق من الجبل إلى الجبل وتتلاقى بعضها مع بعض ليسكنها الموت، أشبه ما تكون بأرض معركة ضروس امتدت رحاها من مداخل المديرية حتى المنتهى جنوبا وصولا إلى وادي عدم، حيث عشرات الآلاف من أعجاز النخل ترقد خاوية في أماكنها، وعشرات المنازل الطينية التي تحولت إلى ركام وأكوام يتوارى تحتها كل ما كان متاعا للسكن ومؤن الحياة.
وما يتناثر هنا وهناك من بقايا ما كان يسمى أثاثا ومتاعا وممتلكات لبيوت جرفت من أساساتها وأصبحت كأن شيئا لم يكن. وفي المكان ذاته وعبر هده الأخاديد والخنادق الغارة عبر الطوفان الهادر سريعا تسبقه خطاه الجامحة دون أن يترك لأحد فرصة النجاة بالنفس والأهل والولد، وغيب معه كل مظهر من مظاهر الحياة لدرجة أن أحدا فيما لو وقف وقفة تأمل مع نفسه للتفكر فيما حدث في المكان نفسه لا يمكنه أن يتخيل من قبيل الخيال لا أكثر، أن قرى تنبض بالحياة كانت هنا قبل أن يجتاح الطوفان المكان ويحيله إلى مجرد مجرى مريب يقذف الرعب والكآبة، وبقايا دوي صرخات وأنات وأصوات الاستغاثات لم تجد لها صدى.
وبينما بدأ البعض من الناجين مهمة البحث في الركام وتحت الأنقاض عن بقايا ما يمكن أن يستفاد منه لاستئناف دورة الحياة مما كان يملك قبل أن يأتي الطوفان ليحدث دمارا وشروخا وتصدعات امتدت من الأمكنة والأبنية لتصل إلى القلوب والأفئدة، لا يزال الطفلان إبراهيم عوض باوزير ووزير أحمد باوزير (ناجيين تربطهما قرابة)، غير قادرين -بسنهما الغض الذي لا يتجاوز الثامنة- على إدراك ما حولهما سوى إمعان النظر في الوجوه والركام والأمكنة، حيث منزلهما الذي قضى فيه جميع أفراد أسرتهما ولم يتبقّ لهما سوى نظرات أسى وعبارات مواساة يقرآنها في تصرفات وعيون من حولهما.

** إبراهيم ووزير
كان سؤال إبراهيم ووزير لحظة انتشالهما بعد ست وثلاثين ساعة من بقائهما تحت الركام والأنقاض: أين فلان وفلان من أبناء الجيران"، ممن كانا يشاطرانهما براءة الطفولة وأحلامها في أزقة وضواحي القرية المتاخمة لمنطقة الصيقة مركز مديرية ساه على بعد كيلومتر من مركز المديرية.
حسب روايتهما لـ"السياسية" التي زارت المكان واطلعت على العديد من القصص المأساوية المثيرة، فإن إبراهيم ووزير اللذين كانا يجلسان إلى جانب بعضهما في مجلس خالهما وملامح الفاجعة واليتم ترتسم على محييهما وتتحكم في تصرفاتهما الطفولية المذهولة بكل شيء من حولها، لم يدركا ما حدث سوى أن والديهما أيقظاهما من المنام عند مداهمة الطوفان وقت الفجر ليلوذ الجميع بالفرار خارج المنزل على أمل النجاة.
غير أن القدر كان أسرع بقطع حبال الوصل فيما بينهم وهدم المنزل على رؤوس الجميع، مبقيا على إبراهيم ووزير محتميين داخل فراغ بسيط تحت الركام تغمره المياه والظلام لا يرى أحدهما فيه الآخر.
يصرخ كل منهما مناديا ليسمعه الآخر: ماذا نفعل؟ وقد غمرتهما المياه حتى رقبتيهما، قبل أن يهتديا إلى الاتفاق على الصراخ والنداء؛ ويصرخان بأعلى صوتيهما: "أنقذونا! أنقذونا!... يا بوي! يا عم سالم!...".
بعد يومين يسمع الطفلان صوت الجرافة وصوت المروحية التي كانت تحوم قرب المكان ضمن جهود الإنقاذ. وبينما الطفلان يصرخان طلبا للإنقاذ تهادى صوتهما إلى مسامع أحد الأهالي المشاركين في عملية الإنقاذ ليطلب إيقاف الجرافة والبدء بعملية الحفر وإزالة الركام والأنقاض بالأيدي حيث كانت المفاجأة: إبراهيم ووزير ما يزالان على قيد الحياة فيما غيب الموت بقية أفراد الأسرة العشرة، 4 ذكور وست إناث.

** عائلة بن نوفل
على بعد أقل من كيلومتر واحد فقط غربا جرف السيل سكة كاملة من المنازل المطلة على الشارع الوحيد لمركز المديرية، ولا يزال الحديث يدور حول أكثر من قصة مؤلمة عن سكان تلك المنازل أبرزها حكاية عائلة علي بن نوفل، التي لم يعطها السيل بعد عودتها إلى المنزل لأخذ ممتلكاتها من الحلي فرصة ثانية للخروج من المنزل بحليها إلى حيث كانت قد فرت مع الإنذار الأول إلى الجبل القريب.
عائلة علي بن نوفل التي كانت تسبح في مجرى الطوفان لم تشفع لها صرخات الموت المدوية التي كانت تطلقها فزعا من الموت وطلبا للإنقاذ. كما أن الطوفان حال بينها وبين التمسك بمجموعة حبال الإنقاذ التي كان يلقيها أولادها وزوجها لها لعل وعسى، ليتم العثور عليها جثة هامدة ملقاة في أحدى الأماكن بعد اثنى عشر يوما من الكارثة.

** شقيق سالم
بالقرب من منزل عائلة بن نوفل، اقتربنا من منزل سالم عوض الجابري (منكوب من أبناء المنطقة)، حيث لم يعد هناك سوى كوم من الركام وبقايا ذكريات حميمية لشقيق يبلغ من العمر 12 عاما غيبه الموت وراح ضحية الطوفان قبل أن يحتسبه أهله شهيدا ويوارون جثمانه الثرى.
يقول سالم، 30 عاما، شقيق الضحية، في روايته للقصة، والذي التقيناه بينما كان يحفر بمجرفته في ركام منزلهم المهدم، واستقبلنا بنوع من عدم الرضا في بداية الأمر، مبديا امتعاضه من تأخر قدومنا وتأخر قدوم مساعدات وجهود الإغاثة: "عندما جاء الإنذار الأول من جارنا بالخروج من البيت سارعت بإخراج أفراد العائلة ونزلت مع أخي لسد قنوات المجاري خوفا من تسللها للمنزل".
لكن الطوفان حسب سالم كان أكبر وأسرع من أن يتصوره المرء، فلم تمضِ سوى دقائق من الإنذار إلا والطوفان "يقفز من ارتفاع كبير رأيناه يقتحم مباشرة الطابق الثاني من البيت ليسقط المنزل ولا أدري أين أنا".
وظل سالم فاقدا للوعي لا يعرف أين مصيره ولا مصير شقيقه. ويقول سالم الذي يبدو على ملامحه وكأنه لم يستفق من الصدمة بعد: "عندما استعدت وعيي بدأت أعوم لإخراج نفسي من تحت الماء".
وعندما خرج من الماء متشبثا بالأعواد الخشبية المتبقية من سقف المنزل، أسرع فزعا إلى أهله على سطح الجبل فإذا بهم يسألونه أين أخوك؟ لم يخرج!".
يتابع سالم بعد أن يطلق تنهيده حارة من الأعماق وتغرق عيناه بالدمع: "حاولنا البحث عنه وإيجاده لكن للأسف لم نجده سوى في اليوم التاسع من الكارثة، كان مطمورا تحت أحد جدران المنزل وقد سقط عليه، فقمنا بالصلاة عليه ودفنه واحتسبناه شهيدا عند الله".

** الشوق للمدرسة
أما والدة سالم وبقية أفراد العائلة فلم تجف عيونهم من البكاء، وما تزال آلام النكبة تعتصرهم ليل نهار على فقدان فلذة كبدهم في حادث ما تزال الكثير من تفاصيله غير مستوعبة بالنسبة لهم كما هو حال الطفل علي (خمسة أعوام) الذي كان إلى جانب والده وبقية أفراد العائلة يبحثون فوق الركام والأنقاض عما تبقى لهم من أشياء ثمينة. كان أهمها بالنسبة لـ علي عثوره على حقيبته المدرسية التي راح يتفقد محتوياتها غير عابئ بوجودنا ولا بالكاميرا، ولا مدرك أن عودته إلى الصف ستطول إلى أجل غير مسمى بعد أن جرف السيل المدرسة التي كانت تجمعه بأقرانه من تلاميذ المنطقة.
قبل أن ندخل ساه استوقفنا في قرية غيل بن عمر الواقعة على الطريق مجموعة من الأطفال والنساء والشيوخ، ومشهد الدمار الواضح في القرية، حيث كان الأطفال يمارسون الصيد التقليدي في البرك بينما راح الكبار يحتطبون سعف النخيل المترامي في المكان الذي شهد وفاة عائلة علي بن عبود وطفلها وتسجيل علي ضمن المفقودين حتى الآن.
حسب السكان فإن علي بن عبود وعائلته الذين يظهر منزلهم المطل على الوادي خلف أشجار النخيل الكثيفة الجاثمة، وقد اجتز السيل جزءا كبيرا من غرفه ومكوناته، وجعلها مكشوفة على المارة بالطريق العام، كانوا نائمين في إحدى الغرف قبل أن يأتي السيل محددا ساعة اختطافه لأرواحهم وأحلامهم البسيطة كعائلة تعتمد على الفلاحة إلى حيث تشير عقارب الساعة الحائطية التي ما تزال تزين جدار الغرفة المكشوفة.

** مناشدة سكان ساه
الطريق الاسفلتية إلى ساه بدت مقطعة بعد أن جرفها السيل، تتصل ببعضها بطرق ترابية تم إعادة فتحها مؤخرا فيما تبدو الجهود الحكومية قائمة على قدم وساق لإعادة الخدمات الأساسية لسكان المنطقة، لكن ما يشغل تفكير الكثير من السكان موعد إعادة

** إعمار المنازل المتضررة
 في حين يبدي السكان انزعاجهم من البقاء في الخيام التي تم نصبها في أكثر من مكان، تماما كما يبدون تخوفهم من بقاء عوائلهم وأطفالهم فيها عرضة لتقلبات الطقس والمناخ، ويأملون من الجهات الحكومية التسريع في عملية إعادة بناء المساكن في أماكن آمنة تعصمهم من خطر السيول.
يأتي هذا في الوقت الذي يبدو فيه أن بعض السكان وكأنهم لم يعتبر من الدرس رغم قسوته، ومنهم من راح يعيد بناء مسكنه في مكانه السابق نفسه القريب من مجرى السيل. فيما ناشد آخرون فخامة الرئيس علي عبد الله صالح رئيس الجمهورية متابعة عمل لجان الإغاثة وتقديم المساعدات للمتضررين بما يضمن وصولها للمنكوبين.
يلاحظ الزائر للمكان توافد العديد من المغتربين من دول الجوار ممن سارعوا على خلفية أخبار النكبة للاطمئنان على أسرهم وأقربائهم. وفي الطريق تلاحظ بعض الفرق الصحية المختصة في مهمة الترصد الوبائي، في إشارة إلى تزايد مخاوف المهتمين من انتشار الأوبئة بعد تكدس مخلفات السيل من المواد العضوية وطفح مياه الصرف الصحي في أكثر من مكان.
تبدو ساه للزائر ومن الوهلة الأولى وبعد أن كانت جنة عدن تنعم بالماء والخضرة والخير الوفير، وكأنها تحاول ترميم جراحها المتناثرة هنا وهناك؛ جراحها الغائرة في الأعماق. ويحاول من فيها استئناف دورة الحياة في مكان يحتفظ فيه الأهالي ببقايا من ذكريات جميلة كانت تجمعهم فيما سلف، وشيء من عبث الطوفا