في صباح يوم السبت 21 ذي الحجة 1431هـ الموافق 27 نوفمبر 2010م كانت عاصمة الثقافية الإسلامية تريم الغناء تلك العروس الباسمة التي ما إنْ تودِعَ ضيفاً إلا وتهبُّ لاكتساء حلّةٍ جديدة مع إشراقة شمس يوم جديد لاستقبال ضيف آخر .. هكذا هو ديدنها.. وكانت هذه المرة على موعد مع زيارة كوكبة مبدعة تلك هي قافلة مبدعي حضرموت.. نعم تفكّر معي مليّاً..
حضرموت والإبداع .. أو الإبداع وحضرموت.. لك ما شئتَ عزيزي القارئ فهما وجهان لعملة واحدة كما يقولون.. أو هما توأمان خرجا من رحم النضوج والتألق الذي شهدته حضرموت طوال امتداد تاريخها القديم والحديث .. لعل البعض يتضايق من مثل هذا الكلام.. ولا غرابة في ذلك .. غير أنها ليست عصبية عنجهية عمياء؛ إنما التاريخ والمواقف هما الحكَمُ الفاصل بيني وبينك.. فتلك الحجاز برمّتها تقاسمني هذا الإعجاب .. وتلك أمّ الدنيا مصر الحضارة تشاطرني وتُنبئك عن هذا الازدهار الفكري والحضاري.. وتلك الشام وتلك بلاد الرافدين تعطيك تعريفاً أعمق عن إبداع ورقيّ الحضرمي .. أما إنْ ذهبت بعيدا -شرق آسيا أو الهند أو أفريقيا وهلمّ جرا-فسوف تجد الإعجاب بإبداع الحضرمي أكبر وأعمق..ولربما كان أغلظ .. فليس ذلك بخافٍ.. ولك بعد ذلك وبسهولة أنْ تفهم قول شاعر حضرموت: ولو ثقفت يوما حضرميا .. لجاءك آية في النابغينا.. فعليك أخي القارئ أن تأخذ نفساً عميقاً من داخل وجدانك .. وبعد استرخاء جميع أعضاءك .. كن معي في هذه الجولة الإبداعية.. لترى عجباً.. وأيُّ عجب..

قافلة مبدعي حضرموت (نموذجاً) هي من تنظيم منتدى أنصار القلم بمدينة القطن –حضرموت، وبرعاية كريمة من مؤسسة مبادرة الشباب بالمكلا.. حيث تهدف القافلة إلى تشجيع المبدعين وتقدير إبداعهم إضافة إلى عرض إبداعات المشاركين على الجمهور سيما النشئ منهم للتحفيز والاقتداء علاوة على اطلاع المشاركين على أهم الجهات الثقافية والمعالم التاريخية في المدن التي يتم زيارتها، إضافة إلى تكوين قاعدة بيانات عن المبدعين في المحافظة. هذا ويكون سير هذه القافلة في المدن التالية: تريم وسيئون والقطن ودوعن والمكلا والشحر. ويرأس القافلة إدارياً الدكتور سعيد سالم الجريري رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين بالمكلا كمستشار، والمهندس أحمد جعفر الحبشي رئيس منتدى أنصار القلم كمشرف، وحسين عبدالله الهدار مديراً، وعبدالعزيز حداد باعطوه منسقاً، وخالد أبوبكر بلحاج إعلامياً، أما المشاركون في هذه القافلة فهم من مناطق مختلفة من مديريات الوادي والساحل فمن تريم المخرج المبدع أحمد يحيى بن يحيى (الحاصل على لقب أصغر مخرج سِنّاً) إضافة إلى مصمم الجرافيك المبدع ماهر العامري، ومن مديرية ساه عبدالرحمن الجابري الفنان التشكيلي والرسام المبدع والذي أبهر كل الجماهير بطاقاته العبقرية على حداثة سنّه وأقيم له معرض لمدة عشرة أيام في بداية عامنا الحالي بمدينة تريم وكذا بالمكلا على هامش مهرجان البلدة السياحي، ويشارك من سيئون حسين أبوبكر العيدروس منشد، ومحمد حسين الحسني مصور ومونتاج الحاصل على جائزة قناة الجزيزة الوثائقية بعمله الوثائقي حصن الفلس مع مجموعة من زملائه بثانوية النهضة، ويشارك من القطن نائف محمد بلعلاء كاتب مسرحي والحائز على جائزة رئيس الجمهورية، أما من المكلا فيشارك في القافله سامي أنيس عبدالعزيز .. شاعر متقن ومتألق.. إضافة إلى الزميل يوسف صالح باقيس إعلامي . وأقدّم الشكر للأخ الإعلامي عبدالله بن حميدان والذي قام برفع خبر هذه القافلة مسبقاً في بعض الصحف الالكترونية.

وبما أن مدينة تريم قبلةً علمية وثقافية وأثرية... قديماً وحديثا كانت هي أولى محطات هذه القافلة.. وذلك بالتنسيق في إعداد برنامج مُسبقٍ مُحكمٍ مع مركز الإبداع الثقافي للدراسات وخدمة التراث والجمعية اليمنية للتاريخ وحماية التراث بمدينة تريم ..
ففي صباح يوم السبت –وباختصار-تمت زيارة ثانوية تريم للبنين وفيها التقت هذه القافلة بمجموعة من الطلاب المبدعين حيث استعرض طلاب ثانوية تريم بعضاً من إبداعاتهم في جوانب عديدة، وعرض أفراد القافلة نماذجاً من إبداعاتهم ومنها عرضُ مادة إعلاميه عن ترشيد المياه كما تم توزيع بروشورات وملصقات تدعو إلى الاهتمام بهذه النعمة العظيمة، ليطول هذا التبادل المعرفي والإبداعي إلى ما يزيد على الساعتين، وتمت بعد ذلك زيارة العديد من مؤسسات المجتمع المدني كان من بينها دار المصطفى للدراسات الإسلامية ومركز النور للدارسات والأبحاث والذي كان على أهبة الاستعداد بكافة أقسامه لاستقبال هذه الكوكبة المبدعة واستمع المركز بداية إلى كلمة رئيس منتدى أنصار القلم -الجهة المنظِّمة لهذه القافلة- وأحاطانا علماً بأهداف هذه القافلة وخطة سيرها ومن ثمَّ استمع الضيوف المبدعون إلى كلمة مدير مركز النور السيد زيد بن يحيى حول الاهتمام بالحافظ على الموروث الحضاري والعملي، ودار حديثه أيضا عن ضرورة الأخذ بأيدي الشباب المبدعين -في زمن اختلت فيه موازين الإبداع فما ليس بإبداع نراه اليوم إبداع والمقصود بيّن وظاهر- وما مركز النور إلا بادرة أهلية طيبة ومحطةُ إبداعٍ متميزةٍ نالت شهرتها خارجيا أكثر منها محليا.. بعد ذلك طافت القافلة في أقسام المركز الأربعة (قسم البحث العلمي والتوثيق والتجليد والترميم إضافة إلى قسم التاريخ والأنساب) كان أشدّ ما لفت انتباهم وانطباعهم -كونهم شباب مبدعون-هو جهاز النور لترميم المخطوطات والوثائق وصناعة الورق كأول جهاز يتم تصميمه وصناعته في اليمن والذي جرى تسجليه لاحقاً لدى دائرة حماية الملكية الفكرية وبراءة الاختراع برقم (162) وعلى منواله تم تصنيع بقية أجهزة النور.

ثم توجهت القافلة قاصدة معلْماً ثقافياً بارزاً تلك هي مكتبة الأحقاف للمخطوطات وتعرّفوا في خلال تلك الزيارة على أهم كنوز التراث العلمي الذي تحتضنه تلك المكتبة وما خلّفه الأجداد من بصمات حيّة والمتمثلة في المخطواطات التي لها مئات السنين.. وبعد العصر توجّه الضيوف إلى زيارة المعالم والمآثر بتريم ومنه قصر الرناد التاريخي وتعرّفوا على كافة غرفه وما احتواه من عُمْرٍ تاريخي ناطق بعبق وعمق تاريخ هذه المدينة والمراحل التاريخية التي شهدتها..
تم بعد ذلك زيارة قصر المنيصورة حيث معرض السياحة والتراث المقام به طوال عامنا هذا والذي تنظمه وزارة السياحة وتنفذه الجمعية اليمنية للتاريخ وحماية التراث.. وتم التجوّل في أجنحته حيث كان في التعريف بأقسام المعرض الأستاذ صبري عفيف والأستاذ خالد باغوث.

ليكون مسك ختام هذه القافلة بجلسة وأمسية كانت أكثر من رائعة أقيمت في مركز الإبداع الثقافي للدراسات وخدمة التراث بعد العِشاء، حضرها عدد غفير كان في مقدمتهم بعضٌ مدراء المرافق الحكومية وعدد من مؤسسات المجتمع المدني ومن مبدعي مدينة تريم الغناء.. كان في إدارة هذه الأمسية الزميل الأستاذ خالد باغوث أمين عام الجمعية اليمنية للتاريخ وحماية التراث وأيضا إعلامي القافلة الزميل خالد بلحاج والذي أعطى الحضور تعريفاً عام عن منتدى أنصار القلم وكذا تعريف عن كل فرد من أفراد هذه القافلة.. وجاءت بعد ذلك كلمة تعريفية وخطةُ سير قافلة مبدعي حضرموت قدّمها المهندس أحمد جعفر الحبشي (مشرف القافلة)، وقصيدة شعرية من الشاعر عادل باعشن وعرض لمونتاج فلمي لقصيدة تحكي حال الأمة أعدّه الموهبة علي باشعيوث.. لنأتي بعد ذلك إلى عرض إبداعات هؤلاء النجوم (مبدعي حضرموت) واحداً تلو الآخر لنرى أنفسنا في قمّة الإعجاب.. لأن ذلك الإبداع لم يكن على المستوى المحلي فحسب، بل كان ذلك الإبداع من القوّة بمكانة وهو ما جعله يدخل المنافسة الدولية، وما الفلم الوثائقي عن حصن الفلس بسيئون والذي هو من إعداد وإنتاج نجم مبدع من هذه القافلة محمد حسين الحسني وزملائه إلا خيرُ دليل –ومع قلة وبساطة الإمكانات التي استخدمت فيه-فقد نال به جائزة قناة الجزيرة الوثائقية في حفل عالمي مهيب والتي تسابق في نيلها شباب الإبداع في شرق الأرض وغربها.

في ختام هذه الأمسية قدّم مشرف القافلة المهندس أحمد الحبشي شهادة تقدير إلى مركز الإبداع كان في استلامها المهندس عبدالرحمن الجنيد رئيس قسم خدمة التراث بالمركز المذكور.. وعُرضت على هامش هذه الأمسية أيضا لوحات الرسّام المبدع وعضو هذه القافلة الموهبة عبدالرحمن الجابري.
ذلك هو إبداع الإنسان الحضرمي البسيط لتكون الخلاصة: دعوةٌ إلى كل من يهمّه الأمر (على الصعيد الحكومي أو الأهلي) بأنّ الإبداع موجود ولكن بحاجة ماسة إلى من يأخذ بأيدي هؤلاء المبدعون وأمثالهم لكي يُظهِروا مكنون إبداعاتهم إلى الملا .. فحضرموت كانت ولا تزال علامة فارقة –نعم فارقة-في تحقيق الإبداع وبشتّى ألوانه وأشكاله.
لأعود بالقارئ ثانية إلى مقولة شاعر حضرموت الأديب علي باكثير حينما قال : (ولو ثقفتَ يوماً حضرمياً ..لجاءك آية في النابغينا) فتلك مقولة لم يأتِ بها بمحض تعصّبٍ قبلي أو إنتمائي، أو ضرب من الغلو والخيال؛ بل هي حقيقة ثابتة.. فها نحن اليوم وبأمِّ أعيننا نرى آية ذلك النبوغ والإبداع بادية للعيان ..أمام صمت مهيب وإعجاب يسود قاعة هذه الأمسية من كل كبيرهم قبل صغيرهم.. فهّلا تنبّهنا لذلك؟؟
وهنا أختم مقالي بكلمة أخي وزميلي الإعلامي خالد بلحاج حينما قال: إنّ الإبداع قد يمرض غير أنه لا يموت.